سورة البقرة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب.
فإن قلت: من المأمور بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ}؟ قلت: يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام: «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه؛ إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق. ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: (فاتقوا) كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. وفي قراءة زيد بن عليّ رضي الله عنه: {وَبَشِّرِ} على لفظ المبنيّ للمفعول عطفاً على (أعدت). والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان (بشرني) (أخبرني) عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك. ومنه قوله:
فَأعْتَبُوا بِالصَّيْلَم ***
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم، قال الحطيئة:
كيْفَ الهَجاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ *** مِنْ آل لأْمٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي
والصالحات: كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة، واللام للجنس.
فإن قلت: أي فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت: إذا دخلت على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه. وإذا دخلت على المجموع، صلح أن يراد به جميع الجنس، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه؛ لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه.
فإن قلت: فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ قلت: الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير:
تَسقِي جَنَّةً سُحُقَا ***
أي نخلاً طوالاً. والتركيب دائر على معنى الستر، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرّة، من مصدر جنه إذا ستره، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها. وسميت دار الثواب (جنة) لما فيها من الجنان.
فإن قلت: الجنة مخلوقة أم لا؟ قلت: قد اختلف في ذلك. والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام، كالنبي والرسول والكتاب ونحوها.
فإن قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان، فإن قلت: أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر؛ وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت: لما جعل الثواب مستحقاً بالإيمان والعمل الصالح، والبشارة مختصة بمن يتولاهما، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحساناً، واعلم بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقال تعالى للمؤمنين: {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أعمالكم} [الحجرات: 2] كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر.
فإن قلت: كيف صورة جري الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية.
وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لابد لأحدهما من صاحبه، ولما قدّمه على سائر نعوتها. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى: نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية (النهر) بفتح الهاء. ومدار التركيب على السعة، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وصيد عليه يومان.
فإن قلت: لم نكرت الجنات وعرّفت الأنهار.
قلت: أما تنكير الجنات فقد ذكر. وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب. أو يراد أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4]. أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] الآية.
وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ} لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة؛ لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا، أي أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله.
فإن قلت: ما موقع من {مِن ثَمَرَةٍ}؟ قلت: هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك. فموقع {مِن ثَمَرَةٍ} موقع قولك من الرمان، كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقاً قالوا ذلك. فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من رمّان. وتحريره أن {رزقوا} جعل مطلقاً مبتدأ من ضمير الجنات، ثم جعل مقيداً بالابتداء من ضمير الجنات، مبتدأ من ثمرة، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار. ووجه آخر: وهو أن يكون {مِن ثَمَرَةٍ} بياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً. تريد أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة.
فإن قلت: كيف قيل: {هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل. وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابهاً، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته.
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {وَأُتُواْ بِهِ}؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً؛ لأنّ قوله: {هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] أي بجنسي الغني والفقير لدلالة قوله: غنياً أو فقيراً على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد.
فإن قلت: لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناساً أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقاً، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم، ويستدعي تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجري في غير أخدود، والعنقود أثنا عشر ذراعاً». ويجوز أن يرجع الضمير في (أتوا به) إلى الرزق، كما أن هذا إشارة إليه، ويكون المعنى: أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك. والتفسير الأوّل هو هو.
فإن قلت: كيف موقع قوله: {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} من نظم الكلام؟
قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا وكان صواباً. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
والمراد بتطهير الأزواج: أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقاً: أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهنّ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهنّ ومثالهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ.
فإن قلت: فهلاّ جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان. يقال: النساء فعلن، وهنّ فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة:
وإذَا العَذَارَى بالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ *** واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة.
وقرأ زيد بن علي {مطهرات} وقرأ عبيد بن عمير: {مُّطَهَّرةٌ}، بمعنى متطهرة. وفي كلام بعض العرب: ما أحوجني إلى بيت الله. فأطهر به أطهرة. أي فأتطهر به تطهرة.
فإن قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: في {مُّطَهَّرةٌ} فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ. وليس ذلك إلا الله عزّ وجلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم.
والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34]. وقال امرؤ القيس:
ألاَ أنْعَمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي *** وهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالي
وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعيدٌ مُخَلّدٌ *** قَلِيلُ الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ


{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
سيقت هذه الآية لبيان أنَّ ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروباً بها المثل، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب، من قبل أنّ التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهّم من المشاهد. فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً إلاَّ أمراً تستدعيه حال المتمثل له وتستجرّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً جلياً أبلج، كيف تمثل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى لا حال أحقر منها وأقلّ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقلّ من الذباب وأخس قدراً، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع، ولم يقل للمتمثل: استحى من تمثيلها بالبعوضة، لأنه مصيب في تمثيله، محق في قوله. سائق للمثل على قضية مضربه، محتذ على مثال ما يحتكمه ويستدعيه، ولبيان أنّ المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والعمل على العدل والتسوية والنظر في الأمور بناظر العقل، إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمرّ الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله. وأن الكفّار الذين غلبهم الجهل على عقولهم، وغصبهم على بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم، أوعرفوا أنه الحق إلا أنّ حبّ الرّياسة وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا، فإذا سمعوه عاندوا وكابروا وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار، وأن ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين وانهماك الفاسقين في غيّهم وضلالهم. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثّلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا: أجمع من ذرّة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد. وأصرد من جرادة، وأضغف من فراشة. وآكل من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوض وكلفتني مخ البعوض. ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة، كالزوان والنخالة وحبة الخردل، والحصاة، والأرضة، والدود، والزنابير. والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغني استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معوّلاً.
وعن الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله. فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم. واشتقاقه من الحياة. يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسي وحشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه من الانكسار والتغير، منتكس القوّة منتقص الحياة، كما قالوا: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء. وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلاً.
فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً» قلت: هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. وكذلك معنى قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ} أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال. وهو فنّ من كلامهم بديع، وطراز عجيب، منه قول أبي تمام:
مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّها *** أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ المَنْزِلِ
وشهد رجل عند شريح. فقال: إنك لسبط الشهادة. فقال الرجل: إنها لم تجعد عني. فقال: لله بلادك، وقبل شهادته. فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة. ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار. وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. ولله درّ أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فناً إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسدّ مدارجه. وقد استعير الحياء فيما لا يصحّ فيه:
إذَا مَا اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ *** كرَعْنَ بِسبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ
وقرأ ابن كثير في رواية شبل: {يستحي} بياء واحدة. وفيه لغتان: التعدّي بالجارّ والتعدي بنفسه. يقولون: استحييت منه واستحييته، وهما محتملتان هاهنا.
وضرب المثل: اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم. وفي الحديث: «اضطرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب» و{مَّا} هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً، كقولك: أعطني كتاباً مّا، تريد أيّ كتاب كان. أو صلة للتأكيد، كالتي في قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155] كأنه قيل: لا يستحيي أن يضرب مثلاً حقاً أو البتة، هذا إذا نصبت {بَعُوضَةً} فإن رفعتها فهي موصولة، صلتها الجملة؛ لأن التقدير: هو بعوضة، فحذف صدر الجملة كما حذف في {تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] ووجه آخر حسن جميل، وهو أن تكون التي فيها معنى الاستفهام لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقّرة مثلاً، بله البعوضة فما فوقها، كما يقال فلان لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران. والمعنى: أن لله أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما لا يدركه لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه، أو بالمعدوم، كما تقول العرب: فلان أقل من لا شيء في العدد. ولقد ألم به قوله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْء} [العنكبوت: 42] وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج، وهو أمضغ العرب للشيح والقيصوم والمشهود له بالفصاحة. وكانوا يشبّهون به الحسن، وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه، وهو المطابق لفصاحته. وانتصب {بَعُوضَةً} بأنها عطف بيان لمثلا. أو مفعول ليضرب، و{مَثَلاً} حال عن النكرة مقدمة عليه. أو انتصبا مفعولين فجرى (ضرب) مجرى (جعل). واشتقاق البعوض من البعض وهو كالقطع كالبضع والعضب. يقال: بعضه البعوض. وأنشد:
لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبي دِثارٍ *** إذَا مَا خافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا
ومنه: بعض الشيء لأنه قطعة منه. والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت، وكذلك الخموش {فَمَا فَوْقَهَا} فيه معنيان: أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً، وهو القلّة والحقارة، نحو قولك لمن يقول: فلان أسفل الناس وأنذلهم: هو فوق ذاك، تريد هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة.
والثاني: فما زاد عليها في الحجم، كأنه قصد بذلك ردّ ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، لأنهما أكبر من البعوضة. كما تقول لصاحبك وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء فقال: فلان بخل بالدرهم والدرهمين،: هو لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان كأنك قلت: فضلاً عن الدرهم والدرهمين. ونحوه في الاحتمالين ما سمعناه في صحيح مسلم عن إبراهيم عن الأسود قال: دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بمنى وهم يضحكون. فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب. فقالت: لا تضحكوا. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت بها عنه خطيئة»
يحتمل فما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة وهي نحو نخبة النملة في قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة» وهي عضتها. ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط.
فإن قلت: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت: ليس كذلك، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها، ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحادّ إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحتَ لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر {سبحان الذى خَلَق الازواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] وأنشدت لبعضهم:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَها *** في ظُلْمَة اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ
وَيَرى عُرُوقَ نِيَاطِها في نَحرِها *** والمُخَّ في تِلْكَ العِظَامِ النُّحَّلِ
اغْفِرْ لِعَبْدٍ تابَ مِنْ فَرَطاتِه *** ما كانَ مِنْهُ في الزَّمانِ الاوَّلِ
{وَأَمَّا}
حرف فيه معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء. وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد. تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت توكيد ذاك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت: أمّا زيد فذاهب. ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب: وهذا التفسير مدل لفائدتين: بيان كونه توكيداً، وأنه في معنى الشرط. ففي إيراد الجملتين مصدّرتين به وإن لم يقل: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين، واعتداد بعلمهم أنه الحق، ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم وعنادهم ورميهم بالكلمة الحمقاء. و{الحق} الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. يقال: حقّ الأمر، إذا ثبت ووجب. وحقّت كلمة ربك، وثوب محقق: محكم النسج: و{مَاذَآ} فيه وجهان: أن يكون ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي، فيكون كلمتين. وأن يكون (ذا) مركبة مع (ما) مجعولتين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة، فهو على الوجه الأوّل مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته. وعلى الثاني منصوب المحل في حكم {مَّا} مجعولتين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة، فهو على الوجه الأوّل مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته. وعلى الثاني منصوب المحل في حكم {مَّا} وحده لو قلت: ما أراد الله. والأصوب في جوابه أن يجيء على الأوّل مرفوعاً، وعلى الثاني منصوباً، ليطابق الجواب السؤال. وقد جوّزوا عكس ذلك تقول في جواب من قال: ما رأيت؟ خير، أي المرئي خير. وفي جواب ما الذي رأيت؟ خيراً، أي رأيت خيراً. وقرئ قوله تعالى:
{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ العفو} [البقرة: 219] بالرفع والنصب على التقديرين. والإرادة نقيض الكراهة، وهي مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك. وفي حدود المتكلمين: الإرادة معنى يوجب للحيّ حالاً لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه. وقد اختلفوا في إرادة الله، فبعضهم على أنّ للباري مثل صفة المريد منا التي هي القصد، وهو أمر زائد على كونه عالماً غير ساه. وبعضهم على أن معنى إرادته لأفعاله هو أنه فعلها وهو غير ساه ولا مكره. ومعنى إرادته لأفعال غيره أنه أمر بها. والضمير في {أَنَّهُ الحق} للمثل، أو لأن يضرب. وفي قولهم: {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} استرذال واستحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو بن العاص: يا عجباً لابن عمرو هذا؟ {مَثَلاً} نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث: ماذا أردت بهذا جواباً. ولمن حمل سلاحاً ردياً: كيف تنتفع بهذا سلاحاً؟ أو على الحال، كقوله: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} [الأعراف: 73]. وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدّرتين بأما، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأنّ العلم بكونه حقاً من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم، وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطاً في ظلماتهم.
فإن قلت: لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم، {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13]، {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24]. «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة»، (وجدت الناس أخبر تقله)؟ قلت: أهل الهدى كثير في أنفسهم، وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضاً فإنّ القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلّوا في الصورة، فسمّوا ذهاباً إلى الحقيقة كثيراً:
إنَّ الكِرَام كثيرٌ في البِلادِ وإن *** قَلُّوا كَمَ غَيْرُهُمْ قَلٌّ وإنّ كَثُروا
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب: لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم، تسبب لضلالهم وهداهم.
وعن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه وقيد، فقال: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه فرأى سلّة. فقال: لمن هذه السلّة؟ فقال: لي، فأمر بها تنزل، فإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك: هذه وضعت القيود على رجلك.
وقرأ زيد بن علي: (يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ) وكذلك: (وَمَا يُضَلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقون). والفسق: الخروج عن القصد. قال رؤبة:
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِها جَوَائرَا ***
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر، وقالوا: إن أوّل من حدّ له هذا الحدّ أبو حذيفة واصل بن عطاء رضي الله عنه وعن أشياعه.
وكونه بين بين: أنّ حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذمّ واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية: أنّ الصلاة لا تجزئ خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار: الفسقة. وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله. {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان} [الحجرات: 11]. يريد اللمز والتنابز {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} [التوبة: 67].
النقض: الفسخ وفك التركيب.
فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول الله، إنّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها. فنخشى إن اللهُ عز وجل أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه، فينّبهوا بتلك الرمزة على مكانه. ونحوه قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس، وإذا تزوّجت امرأة فاستوثرها. لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر، وعلى المرأة بأنها فراش.
والعهد: الموثق. وعهد إليه في كذا: إذا وصاه به ووثقه عليه. واستعهد منه: إذا اشترط عليه واستوثق منه: والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله: أحبار اليهود المتعنتون، أو منافقوهم، أو الكفار جميعًا.
فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 112] أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذابُعِثَ إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه، ولم يكتموا ذكره فيما تقدمه من الكتب المنزلة عليهم، كقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وقوله في الإنجيل لعيسى صلوات الله عليه: (سأنزل عليك كتاباً فيه نبأ بني إسرائيل، وما أريته أياهم من الآيات، وما أنعمت عليهم وما نقضوا من ميثاقهم الذي واثقوا به، وما ضيعوا من عهده إليهم) وحسن صنعه للذين قاموا بمثياق الله تعالى وأوفوا بعهده، ونصره إياهم، وكيف أنزل بأسه ونقمته بالذين غدروا ونقضوا ميثاقهم ولم يوفوا بعهده، لأنّ اليهود فعلوا باسم عيسى ما فعلوا باسم محمد صلى الله عليه وسلم من التحريف والجحود وكفروا به كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيلا هو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يبغي بعضهم على بعض، ولا يقطعوا أرحامهم. وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الأوّل الذي أخذه على جميع ذرية آدم، الإقرار بربوبيته وهو قوله تعالى:
{وإذ أخذ ربك} [الأعراف: 172]، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7]، وعهد خصّ به العلماء وهو قوله: {وَإِذ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لتبيننه للناس ولا يكتمونه} [آل عمران: 187]. والضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم. ويجوز أن يكون بمعنى توثقته، كما أنّ الميعاد والميلاد، بمعنى الوعد والولادة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى، أي من بعد توثقته عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله. ومعنى قطعهم ما أمر الله به أو يوصل: قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، وقيل: قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق، في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض.
فإن قلت: ما الأمر؟ قلت: طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه. وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور؛ لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر، تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له شأن. والشأن: الطلب والقصد. يقال: شأنت شأنه، أي قصدت قصده {هُمُ الخاسرون} لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها.


{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
معنى الهمزة التي في {كَيْفَ} مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناج، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء.
قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان.
فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في {كَيْفَ} حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال؛ فكان إنكار حال الكفار لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره: أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها. وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفةٍ عند وجوده. ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني.
والواو في قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا} للحال، فإن قلت: فكيف صح أن يكون حالاً وهو ماض، ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام، إلا لأن يضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على {كُنتُمْ أمواتا} وحده، ولكن على جملة قوله: {كُنتُمْ أمواتا} إلى {تُرْجَعُونَ}، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم.
فإن قلت: بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها.
فإن قلت: فقد آل المعنى إلى قولك: على أي حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت: قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في {كَيْفَ} الإنكار. وأنّ إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية، فكأنه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت: إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت: قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات: جمع ميت، كالأقوال في جمع قَيِّل.
فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جماداً، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البتى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله: {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الفرقان: 49]، {وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة} [يس: 33]، {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21]. ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس، فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر: وبالرجوع: النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء.
فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهراً. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور.
فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. {قبلكمْ} لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع الدنيوي فظاهر. وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها.
فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية: جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. و{جَمِيعاً} نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً، من غير أن يلوي على شيء. ومنه استعير قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء}، أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في {فَسَوَّاهُنَّ} ضمير مبهم. و{سَبْعَ سماوات} تفسيره، كقولهم: ربه رجلاً. وقيل: الضمير راجع إلى السماء. والسماء في معنى الجنس. وقيل: جمع سماءة، والوجه العربي هو الأوّل. ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ {وَهُوَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، فإن قلت: ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه (ثم) لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت: (ثم) هاهنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السموات على خلق الأرض، لا للتراخي في الوقت كقوله:
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17]. على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر.
فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: {والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30]؟ قلت: لا؛ لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء. وأمّا دحوها فمتأخر.
وعن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله: {كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30] وهو الالتزاق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9